كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإذا اتضح الهدى فما وراءه إلا الضلال، والمشاغبة بالجدال. كما قال تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} أي: ما ضربوا لك هذا القول إلا لأجل الجدل والخصومة، لا عن اعتقاد، لظهور بطلانه: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي: شديد والخصومة بالباطل تمويهًا وتلبيسًا. وفي الحديث «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» وما ذكرناه في تفسير هذه الآية، هو الجلي الواضح، لدلالة السياق والسباق فقابل بينه وبين ما حكاه الغير وأنصف.
ثم جلى شأن عيسى عليه السلام، بما يرفع كل لبس، بقوله سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} أي: بالنبوة والرسالة: {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: آية لهم وحجة عليهم، بما ظهر على يديه، مما أيّد نبوته، ورسالته، وصدق دعواه.
{وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم} أي: بدلكم: {مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} أي: يكونون مكانكم. إيعاد لهم بأنهم في قبضة المشيئة في إهلاكهم، وإبدال من هو خير منهم. كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقيل معنى: {لَجَعَلْنَا مِنكُم} لولدنا منكم ملائكة، كما ولدنا عيسى من غير أب، لتعرفوا تميزنا بالقدرة. واللفظ الكريم يحتمله، إلا أن الأظهر هو الأول، لما جرت به عادة التنزيل، من خواتم أمثال ما تقدم، بنظائر هذا الوعيد، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} الضمير إما للقرآن كما ذهب إليه قوم، أي: وإن القرآن الكريم يعلم بالساعة ويخبر عنها وهن أهوالها، وفي جعله عين العلم، مبالغة. والعلم بمعنى العلامة. وقيل الضمير لعيسى عليه السلام. أي: إن ظهوره من أشراط الساعة. ونزوله إلى الأرض في آخر الزمان دليل على فناء الدنيا. وقال يعضهم: معناه أن عيسى سبب للعلم بها. فإنه هو ومعجزاته من أعظم الدلائل على إمكان البعث. فالآية مجاز مرسل علاقته المسببية؛ إذ أطلق المسبب وهو العلم، وأراد السبب وهو عيسى ومعجزاته. كقولك: أمطرت السماء نباتًا؛ أي: مطرًا يتسبب عنه النبات.
وقرئ: {وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِّلسَّاعَةِ} بفتحتين. أي: أنه كالجبل الذي يهتدي به إلى معرفة الطريق ونحوه؛ فبعيسى عليه السلام يهتدي إلى طريقة إقامة الدليل على إمكان الساعة وكيفية حصولها. انتهى. وهو جيد: {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ} أي: اتبعوا هداي، أو شرعي، أو رسولي، أو هو أمر للرسول أن يقوله: {هَذَا} أي: القرآن، أو ما أدعوكم إليه: {صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} أي: عن الاتباع: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.
{وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قال قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي من أحكام التوراة وغيرها. كاختلاف اليهود في القيامة، لعدم صراحتها في كتبهم. وقد جاء في نحوها آية: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عِمْرَان: 50]، وقد وضع عن اليهود شيئًا من إصْر التوراة، وأغلال الناموس، كما فعل في يوم السبت، خففت شدّة حكمه.
قال يعض المحققين: وإنما لم يقل: ولأبين لكم كل ما تختلفون فيه؛ لأنه لم يفعل ذلك. بل ترك بيان كثير من الأشياء، كالفساد الذي دخل في أغلب كتبهم للفارقليط- محمد صلى الله عليه وسلم- الذي يأتي بعده، لعدم استعداد الناس في زمنه لقبول كل شيء منه. كما قال هو نفسه في: إنجيل يوحنا، في الإصحاح السادس عشر، وخصوصًا إذا تعرض للطعن في كتبهم، وهي رأس مالهم الوحيد وتراث أجدادهم، ولو فعل ذلك لشك فيه الكثيرون منهم وكذبوه، ولما اتبعه إلا الأقلون أو النادرون، فتضيع الفائدة من بعثته التي بيناها في المتن، وهي التي بعث من أجلها.
وأما قول الله تعالى عن لسانه: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عِمْرَان: 50]، فالمراد بمثل هذا التعبير، أنه بمجيئه عليه السلام تحققت نبوات التوراة عنه، وبه صحت وصدقت. وكلمة التوراة، تطلق على كتاب العهد القديم؛ فالمعنى أن مجيء عيسى كان وفق ما أنبأ به النبيون عنه من قبل. ولولاه لما صدقت تلك النبوات؛ فإنها لا تنطبق إلا عليه. وليس المراد أن عيسى يقرّ كل ما في التوراة، كما يتوهم النصارى الآن من مثل هذه الآية. وإلا لما قال بعدها مباشرة: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عِمْرَان: 50]، فكيف يقرّها وهو قد جاء ناسخًا لبعض ما فيها؟ فتدبر ذلك ولا تكن كهؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويفسرون ما لا يفهمون. انتهى كلامه. وهو وجيه جدًا.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} قال ابن جرير: أي: إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له، ربي وربكم جميعًا. فاعبدوه وحده لا تشركوا معه في عبادته شيئًا. فإنه لا يصح ولا ينبغي أن يعبد شيء سواه.
{هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي: هذا الذي أمرتكم به، من اتقاء الله وطاعتي، وإفراد الله بالألوهية، هو الطريق القويم. وإذا كان هذا قول عيسى عليه السلام، فلا عبرة بقول الملحدين فيه والمفترين عليه ما لم يقله. ثم أشار إلى وعيد من خالف الحق بعد وضوحه، بقوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ} أي: الفرق المتحزبة اختلافًا نشأ: {مِن بَيْنِهِمْ} أي: لا من قوله تعالى، ولا من قول عيسى. بل ظلمًا وعنادًا: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي: مؤلم من شدة الأهوال، وكثرة الفضائح، وظلمهم بترك النظر في الدلائل العقلية والنقلية.
{هَلْ يَنظُرُونَ} أي: قريش: {إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ} أي: المتخالون على المعاصي والفساد، والصد عن الحق يوم القيامة: {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي: معاد، يتبرأ كل من صاحبه: {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} أي: المتصادقين في طاعة الله ومحبته. قال القاشاني: الخلة إما أن تكون خيرية، أوْ لا. والخيرية إما أن تكون في الله أو لله ومحبته. وغير الخيرية إما أن يكون سببها اللذة النفسانية أو النفع العقلي.
والقسم الأول هو المحبة الروحانية الذاتية المستندة إلى تناسب الأرواح في الأزل، التي قال فيها «فما تعارف منها ائتلف» فهم إذا برزوا في هذه النشأة، وتوجهوا إلى الحق، وتجددوا عن مواد الرجس، فلما تلاقوا تعارفوا، وإذا تعارفوا تحابوا، لتجانسهم الأصلي، وتوافقهم في الوجهة والطريقة، وتشابههم في السيرة والغريزة، وتجردهم عن الأغراض الفاسدة والأعراض الذاتية، التي هي سبب العداوة. وانتفع كل منهم بالآخر في سلوكه وعرفانه. والتذ بلقائه، وتصفى بصفائه، وتعاونوا في أمور الدنيا والآخرة. فهي الخلة التامة الحقيقية التي لا تزول أبدًا كمحبة الأنبياء، والأصفياء، والأولياء، والشهداء.
والقسم الثاني هو المحبة القلبية المستندة إلى تناسب الأوصاف، والأخلاق، والسير الفاضلة، ونشأته الاعتقادات، والأعمال الصالحة. كمحبة الصلحاء والأبرار فيما بينهم، ومحبة العرفاء والأولياء إياهم. ومحبة الأنبياء أممهم.
والقسم الثالث هو المحبة النفسانية المستندة إلى اللذات الحسية، والأعراض الجزئية. كمحبة الأزواج لمجرد الشهوة، ومحبة الفجار، والفساق المتعاونين في اكتساب الشهوات، واستلاب الأموال.
والقسم الرابع هو المحبة العقلية المستندة إلى تسهيل أسباب المعاش، وتيسير المصالح الدنيوية، كمحبة التجار والصناع، ومحبة المحسَن إليه للمحسِن. فكل ما استند إلى غرض فانٍ، وسبب زائل، زال بزواله، وانقلب عند فقدانه عداوة. لتوقع كل من المتحابين ما اعتاد من صاحبه، من اللذة المعهودة، والنفع المألوف، وامتناعه لزوال سببه، ولما كان الغالب على أهل العلم أحد القسمين الأخيرين، أطلق الكلام، وقال: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} لانقطاع أسباب الوصلة بينهم، وانتفاء الآلات البدنية عنهم، وامتناع حصول اللذة الحسية، والنفع الجسماني، وانقلابهما حسرات وآلامًا وضررًا وخسرانًا. قد زالت اللذات والشهوات، وبقيت العقوبات والتبعات، فكل يمقت صاحبه ويبغضه؛ لأنه يرى ما به من العذاب، منه وبسببه.
ثم استثنى المتقين المتناولين للقسمين الباقيين لقلتهم، كما لقال: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، ولعمري، إن القسم الأول أعز من الكبريت الأحمر. وهم الكاملون في التقوى، البالغون إلى نهايتها، الفائزون بجميع مراتبها. ويليهم القسم الثاني، وكلا القسمين، لاشتراكهما في طلب مرضاة الله، وطلب ثوابه، واجتناب سخطه، وعقابه، نسبهم سبحانه إلى نفسه بقوله: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي: لأمنهم من العذاب: {وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} أي: على فوات لذات الدنيا؛ لكونهم على ألذّ منها وأبهج، وأحسن حالًا وأجمل.
{الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا} أي: صدقوا بكتاب الله ورسله، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم: {وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} أي: أهل خضوع لله بقلوبهم، وقبول منهم لما جاءتهم به رسولهم عن ربهم، على دين إبراهيم عليه السلام، حنفاء، لا يهود، ولا نصارى، ولا أهل أوثان.
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} أي: تسرون سرورًا يظهر حباره، أي: أثره على وجوهكم، كقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24].
{يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} الصحاف جمع صفحة، وهي آنية الأكل. والأكواب جمع كوب، وهو ما يشرب منه كالكوز، إلا أن الكوب ما لا عروة له. قال الشهاب: العروة ما يمسك منه ويسمى أذانًا. ولذا قال من ألغز فيه:
وَذِيْ أُذُنٍ بِلَاْ سَمْعٍ ** لَهُ قَلْبٌ بِلَاْ قَلْبِ

إِذَا اسْتَوْلَىْ عَلَىْ صَبٍّ ** فَقُلْ مَاْ شِئْتَ فِي الصَّبِّ

ومن اللطائف هنا ما قيل: إنه لما كانت أواني المأكولات أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة، جمع الأول جمع كثرة، والثاني جمع قلة {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} أي: بمشاهدته: {وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: من الخيرات، والأعمال الصالحات. وقد شبه ما استحقوه بأعمالهم الحسنة، من الجنة ونعيمها الباقي لهم، بما يخلفه المرء لورّاثه من الأملاك، والأرزاق. ويلزمه تشبيه العمل نفسه بالمورث، على صيغة اسم الفاعل، فهو استعارة تبعية، أو تمثيلية.
{لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي: ما اشتهيتم، ومن إما ابتدائية أو تبعيضية، ورجح بدلالته على كثرة النعم، وأنها غير مقطوعة ولا ممنوعة، وأنها مزينة بالثمار أبدًا، موقرة بها.
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} أي: الذين اجترموا الكفر، والمعاصي في الدنيا: {فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أي: لا يخفف ولا ينقص: {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي: مستسلمون يائسون.
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} أي: بهذا العذاب: {وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} أي: بكفرهم الله، وجحودهم توحيده.
{وَنَادَوْا} أي: بعد إدخالهم جهنم: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي: ليمتنا. أي: سله أن يفعل بنا ذلك. تمنوا تعطل الحواس وعدم الإحساس، لشدة التألم بالعذاب الجسماني {قال إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} أي: لابثون: {لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أي: لا تقبلونه وتنفرون منه، وعبّر بالأكثر؛ لأن من الأتباع من يكفر تقليدًا.
لطيفة:
قال القاشاني: سمي خازن النار مالكًا لاختصاصه بمن ملك الدنيا وآثرها. لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37- 39] كما سمي خازن الجنة رضوانًا لاختصاصه بمن رضي الله عنهم، ورضوا عنه.
{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} أي: أم أبرم مشركو مكة أمرًا فأحكموه، يكيدون به الحق الذي جاءهم، فإنا محكمون لهم ما يخزيهم ويذلهم، من النكال. كقوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور: 42].
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} أي: ما أخفوه من تناجيهم بما يمكرون، فلا نجازيهم عليه لخفائه علينا: {بَلَى} أي: نسمعهما ونطلّع عليهما: {وَرُسُلُنَا} يعني الحفظة: {لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} أي: ما تكلّموا به ولفظوا من قول، ثم أشار إلى ردّ إفكهم في أن الملائكة بنات الله تعالى، ختمًا للسورة مما بدئت به، المسمى عند البديعيين: رد العجز على الصدر. فقال سبحانه: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي: لذلك الولد. والأولية بالنسبة إلى المخاطبين، لا لمن تقدّمهم. قال الشهاب: ولو أبقى على إطلاقه، على أن المراد إظهار الرغبة والمسارعة، جاز. انتهى.
{سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} على نفي التالي. وهو عبادة الولد؛ أي: أوحّده وأنزّهه تعالى عما يصفونه من كونه مماثلًا لشيء، لكونه ربًّا خالقًا للأجسام كلها، فلا يكون من جنسها، فيفيد انتقاء الولد على الطريق البرهاني. وأما دلالته على الثاني، فإذا جعل قوله: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ} الخ من كلام الله تعالى، لا من كلام الرسول؛ أي: نزّه رب السماوات عما يصفونه، فيكون نفيًا للمتقدم ويكون تعليق عبادة الرسول من باب التعليق بالمحال، والمعلق بالشرط عند عدمه فحوى بدلالة المفهوم، أبلغ عند علماء البيان من دلالة المنطوق. كما قال في استبعاد الرؤية: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]. انتهى.
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} أي: في باطلهم: {وَيَلْعَبُوا} أي: في دنياهم: {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} قال ابن جرير: وذلك يوم يُصليهم الله بفريتهم عليه جهنم، وهو يوم القيامة.
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} أي: المعبود فيهما بلا شريك: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} أي: في تدبير خلقه، وتسخيرهم لما يشاء بمصالحهم.
{وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} أي: الشفاعة لهم عند الله، كما زعموا أن أندادهم شفعاء: {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: من آمن بالله، وأقر بتوحيده، وهم يعلمون حقيقة توحيده؛ أي: وحّدوه، وأخلصوا له على علم منهم ويقين، كقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. قال ابن كثير: هذا استثناء منقطع، أي: لكن من شهد بالحق على بصيرة، وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده، بإذنه له.
تنبيه:
قال الشهاب: استدل الفقهاء بهذه الآية على أن الشهادة لا تكون إلا عن علم، وأنها تجوز وإن لم يشهد.
وفي (الإكليل) قال إلكيا: يدل قوله تعالى: {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} على معنيين: أحدهما- أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني- أن شرط الشهادات في الحقوق وغيرها، أن يكون الشاهد عالمًا بها.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقولنَّ اللَّهُ} أي: خلقنا لتعذر المكابرة فيه من فرط ظهوره: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي: يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.
{وَقِيلِهِ} أي: قيل محمد صلوات الله عليه، شاكيًا إلى ربه تبارك وتعالى، قومه الذين كذبوه وما يتلقى منهم: {يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء} أي: الذين أمرتني بإنذارهم، وأرسلتني إليهم لدعائهم إليك: {قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ} أي: بالتوحيد، والرسالة، واليوم الآخر. كقوله تعالى: {وقال الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القرآن مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
{فَاصْفَحْ} أي: أعرض: {عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} أي: لكم، أو عليكم، أو أمري سلام؛ أي: متاركة فهو سلام متاركة لا تحية.
وقال الرازي: احتج قوم بهذه الآية على أنه يجوز السلام على الكافر. ثم قال: إن صح هذا الاستدلال فإنه يوجب الاقتصار على مجرد قوله: سلام. وأن يقال للمؤمن: سلام عليكم. والمقصود التنبيه على التحية التي تذكر للمسلم والكفار.